أوجه الضعف في الدول القوية (2)
أو
أكل الأناناس على سطح القمر
(( إليك، إذن، مقتطفا مما كتبه في الستينيات طالب بالمرحلة الثانوية يدعى كوبيشيف: نحن الآن في عام 1981. الشيوعية. الشيوعية تعني وفرة من الخيرات المادية والثقافية... كل وسائل المواصلات في المدينة تدار بالكهرباء، وكل المشروعات الضارة قد نقلت الى خارج المدينة... إننا نعيش على سطح القمر، ونمشي بين شجيرات الأزهار والفاكهة..))
((فكم من السنين يا ترى لبثناها ونحن نأكل الأناناس على سطح القمر؟ حبذا لو أتى يوم نأكل فيه كفايتنا من الطماطم هنا على ظهر الأرض))
أندريه نويكين: " النحلة والمثل العليا للشيوعية"*1
بعد أن قدم الكاتب (فوكوياما) فقرة الافتتاح التي ينتقيها بمهارة عالية، يلخص فيها أو يمهد لما يريد قوله. وحيث أن ما أراده في هذه المقالة هو الهجوم المؤدب على الشيوعية والاشتراكية والتمجيد المبطن لليبرالية وحتمية انتصارها وعبثية الوقوف في وجهها، فإنه يضع دعامات مقالته في رشاقة عالية.
روسيا المتخلفة
صور الكاتب أن الروس وقبولهم للشيوعية أو للنخبة الحاكمة (في الاتحاد السوفييتي) لا يمكن أن يخلصوا منه، لأنهم شعب متخلف وخانع، وهذا التصور ليس هو من وضعه بل هيأ للقارئ أن كل الغرب يشاركونه انطباعه في تخلف الروس. ومن المفيد القول هنا أن روسيا منذ نشأتها كدولة قوية في بداية القرن السادس عشر، لم تكن على وفاق مع الغرب الأوروبي لأكثر من مسألة، وقد بينها (صاموئيل هانتنغتون) في كتابه (صدام الحضارات) الذي قدمنا تلخيصه سابقا. ولكن الكاتب وبعد أن يصور الروس بخنوعهم، يبدي عنصر المفاجأة عندما يتخلصون من ديكتاتوريتهم، ليبعث برسالة مفادها أنه بالإمكان لأي شعب متخلف بالعالم أن يلحق بالمعسكر الغربي الليبرالي مهما كان تخلفه، حتى لو كان هذا التخلف يساوي التخلف الروسي!
طار فوق عش الوقواق
قصة حشرها الكاتب للتدليل على تصويره للخنوع الروسي المفرط لحكومته، وكانت بالأصل رواية تحت نفس الاسم (طار فوق عش الوقواق One Flew Over The Cuckoo,s Nest) كتبها (كين كيسي) عام 1962 ، يتحدث فيها عن نزلاء لمصحة (للمجانين) يحاول البطل تحريرهم وعندما ينجح بذلك يعودون طوعا للمصحة! هكذا أراد الكاتب تصوير الشعب الروسي بتلذذه بعذابه داخل مصحة حكومته!
تساؤل يتظاهر به بالبراءة
يستعرض الكاتب القوة التي كانت عليها روسيا أيام (خور تشوف) حيث كانت نسبة النمو الاقتصادي تزيد عن ضعفي مثيلاتها في الدول الغربية، وكيف كانت خشية الغرب، من أن يتحول العالم كله للنموذج السوفييتي، وأنه لم يكن هناك من يتوقع السرعة بالانهيار كالتي حدثت، فماذا حدث؟ (السؤال البريء!)
1ـ في بداية الثمانينات سمحت السلطات الصينية للفلاحين الذين يشكلون 80% من الشعب الصيني بزراعة أرضهم وبيع محاصيلهم، معلنا انتهاء فكرة المزارع الجماعية.
2ـ في عام 1986 شرعت الصحافة السوفييتية بنشر مقالات تهاجم ستالين وعهده وجرائمه، في إشارة تبدي تنصل نظام (جورباتشوف) من الرضا عمن سبقه من العهود.
3ـ في شباط/فبراير 1989 انسحب الجيش السوفييتي من أفغانستان.
4ـ في أوائل عام 1989 أعلن الإصلاحيون في المجر (هنغاريا) إجراء انتخابات متعددة .. كما فعل البولنديون بانتخاب أعضاء نقابة (تضامن) رغم محاولة الشيوعيين تزييف تلك الانتخابات.
5ـ في ربيع 1989 استطاع عشرات الألوف من الطلبة بالسيطرة على بكين بعض الوقت مطالبين بإنهاء الفساد، ولكن الجيش سحق انتفاضتهم.
6ـ في يوليو وأغسطس/ تموز وآب 1989 هجم مئات الألوف من الألمان الشرقيين باتجاه ألمانيا الغربية مما أدى الى نشوء أزمة انتهت بهدم سور برلين
7ـ في يناير/كانون الثاني 1990 ألغيت المادة السادسة من الدستور السوفييتي التي تضمن (دورا قياديا) للحزب الشيوعي.
8ـ في أعقاب إلغاء المادة السادسة، تشكل مجموعة من الأحزاب في الاتحاد السوفييتي، وتم انتخاب بوريس يلتسين رئيسا لروسيا.
9ـ جرت انهيارات بالجملة في دول أوروبا الشرقية، وجرى بعدها انتخابات ابتعدت فيها الأحزاب الشيوعية عن السلطة.
لم يستطع أي فصيل أو مجموعة الوقوف أمام الاكتساح الهائل للجماهير في إحداث التغيير الهائل. وبعبارة أخرى لم يرغب أحد في الدفاع عن الحالة السابقة إلا الحالة التي قام بها (رسلان حسب اللاتوف) في محاولة الانقلاب على جورباتشوف في آب/أغسطس 1991.
وهنا يشير جورباتشوف الى أن (البريسترويكا) وملامح الانهيار لم تكن تعود الى الحالة الاقتصادية في عام 1985، وقال أننا لم نصل الوضع المأزوم بل الخط ما قبل المأزوم، مشيرا الى أن دولا وصلت الى أسوأ من ذلك ولكنها تعافت! وحشر المؤلف لتلك العبارة، يريد التدليل به الى أن الفشل الاقتصادي ما هو إلا واحد من أعراض كثيرة لأزمة أكبر!
ماذا بعد الانهيار؟
يقول المؤلف: إنه من المبكر التهليل لانقضاء الدولة الشمولية القوية، حيث أنه في البلدان التي تختفي منها الشيوعية ستحل مكانها أنظمة استبدادية قومية أو ربما فاشية (روسيا وصربيا) ستكون أكثر خطورة وأكثر إثارة للقلق للعالم الغربي من الدول الشيوعية نفسها.
هامش
*1ـ في كتاب Inogo ne dano الذي حرره ي. أفاناسييف /موسكو/ مطبعة التقدم 1989/ صفحة 510